يجلس الآن على مكتبه وحيدا شريدا ، يفكر في كل ماحدث ويحدث حوله ، لا يجد تفسير مقنع لأي شيء
يلقي رأسه علي المكتب ويغمض عينيه قليلا ، يشعر بصعوبه في التنفس فيعتدل سريعا ويأخذ شهيق عميق !
يقوم ثم يلقي بجسده الهامد علي السرير ، ولا تزال احداث الايام الماضيه تتعقبه حتي تحت الوساده ،
ازداد ضيق تنفسه واصبح مصحوبا بعرق غزير رغم ان الشتاء لم ينته بعد ،
مسك بمنديل ورقي واخذ يتحسس جبهته وينشف عرقه وهو في حالة يرثى لها ،
ولا تزال احداث الايام الماضيه تحيطه من كل جانب وكأنها الهواء الذي يتنفسه بصعوبه الآن !
لاشك ان صدمته كانت كبيره ، خصوصا انه كان يحبها بكل صدق ، ولم يكن يتمنى سوى ان يرتبط بها وتصبح شريكته مدى الحياه ،
وربما لانه تصور انها تبادله نفس الشعور ، وان العائق الوحيد بينهما هو السن ، فهي تكبره ياشهر قليله ، الحب كافي بان يتخطاها بكثير !
نعم ذلك الحب الذي اصابه منذ ان رآها من عامين ، واصابه بقشعريره يشعر وكأنها لا تزال تسري في جسده حتي الآن ، ذلك الحب الذي كتبه في رساله علي برديه حروفها من نور وسطورها ماسيّه وكلماتها بلغة القرآن عربيه ، الحب الذي لم يتذوقه الا عندما رآها وياليته لم يتذوقه ويا ليته لم يراها !
يزداد العرق ويزداد تنفسه ضيقاً ، ولكنه لا يستطيع الهروب من براثن الامه واحلامه الضائعه ، لا يستطيع حتى ان يصرخ بما يجوب بداخله ، ولا يستطيع استيعاب ماحدث وتصديق انه الآن خسر كل شيء !
نعم احبها ، ولكنه اكتشف انها لا تشعر بنفس القشعريره حينما تراه ، وبانها لا تهوى قراءة البرديات حتى ولو كانت حروفها من نور ، وبأنها فقط تحب نفسها ... وتضيع وقتها ... وترضي غرورها !
نفسه توقف تقريبا الآن ، واصبح يسمع دقات قلبه بوضوح ، قلبه الذي كان يحبها من اجله ، والآن يتعذب ويتألم بسببه وبسبب عدم قدرته علي الاختيار الصحيح ،
يعود لتتنفس ببطء مره اخري ويلتمس العذر لقلبه ، فهو لا يعرف الكثير عن الحب ، وكغيره من القلوب يعيش ليجد اكسير الحياه ، يعيش ليحب ، يعيش ليتألم بنار الحب ، لكنها لم تكن مجرد آلام يستطيع العيش معها ، ولكنها كتبت نهايته قبل ميلاده ، وحكمت عليه بالموت حتى قبل ان يعيش !
الآن وهو مستلقي علي سريره لا يستطيع الحراك ، وقد خسر كل شيء ، خسر عامين من حياته رغم انه كان يدعي انهما كل حياته ، وخسر قلبه رغم انه لايزال ينبض بداخله ، وخسر حلمه رغم انه لم يولد بعد!
وليست هي كل ما يؤرقه الان ، فلقد وجد نفسه وحيدا في الغرفه ولا احد يعلم عنه شيء ، لا يستطيع الحراك ... وان استطاع فالي من ؟ ، اصدقاؤه يكتفون بعبارات المواساه التقليديه ، واهله منشغلون عنه باي شيء ، فاي شيء سواه فهو بالتأكيد أهم منه ، وكل ما يهمهم الان هو النجاح سريعا حتى ينتهي مسلسل تعليمه الطويل ، ويصبح اكثر وحده او كما يقولون : ليصبح اكثر اعتماداً علي نفسه !
يفكر قليلا فيمن يلجأ اليه ، فيجد الغرفه تخلوا من كل شيء الا الاحزان والهموم ، يرفع عينيه الدامعتين الي السماء ، ثم يعود بها سريعا الي غرفته الحزينه ، فقد فكر قليلا في خالقه ، وكيف انه مقصر في كل شيء ، وكيف انه يستحيي حتى من ان يدعوه ليفرج همه وليزيل كربه ...
تزداد الدموع في عينيه ، ويطوّق اليأس قلبه ، ويصبح مشلولا بين خيوط شيطانيه تحيطه من كل جانب ، تملك اليأس منه ووقف الشيطان علي راسه مستغلا هذه اللحظه التي يرقد فيها مؤمن وهو ضعيف لا يقدر علي اي شيء ، ولا يستطيع حتى الدعاء ، لحظه من الضعف لا يستطيع الخروج منها وحده ، يحتاج من يمد يده اليه ويخرجه مما هو فيه فلا يجد أحد بجانبه ، ولايزال الشيطان يوسوس اليه بانه لا امل ولا احد يستحق ان يبقي من اجله ، وتزداد دموعه ، ويزداد استسلامه ، يرفعه يديه اخيرا الي ربه ويدعي ، ولكنه دعاء يتمنى فيه الموت ... دعاء ييأس فيه من رحمة الله ... دعاء لقنه الشيطان اياه وهو سعيد لانه يردده خلفه بمنتهى البراعه !
يزداد يأسه وضعفه ، ويواصل الشيطان استغلال كل هذا ، يقرر ان يتخلص من كل هذه الهموم ، يبحث عن مَوته مريحه تأخذه بعيدا عن كل شيء ، ولكنه يتردد ويفكر قليلا ...
يفكر فيمن يحبونه ، وفيمن يحتاجون اليه ، يفكر في من كان يمنحهم السعاده وفي الذين سيتألمون لفراقه ، يبكي علي نفسه كثيرا مع بكائهم عليه ، يتألم لألمهم من بعده ،
ولكن يعاود الشيطان وسوسته اليه ويقول له : اين هم الان وانت ملقى وحيداً بين همومك ؟ ، اين احباؤك واصدقائك الذين تخاف علي ألمهم من بعدك ، فانت تمنحهم السعاده بلا مقابل وتخفف آلامهم ولا تجد من يخفف آلامك !
ثم يفكر في احلامه الصغيره ، والقصور الرمليه التي كان يرسمها علي الشاطيء ، يفكر في الايام التي لم يعيشها ، وفي الاوقات التي لم يقضيها ، يفكر في اولاده وفي اسمائهم التي اختارها حتي قبل ان يراهم ، يفكر في بيته الصغير وحبه الكبير ... يفكر ويفكر ... يتألم ويبكي ... ويزداد ضعفاً ،
ويجد احلامه قد وأدتها الأيام وقصوره دمرتها امواج الزمان وحبه قد ضاع بين رياح الغدر والخداع !
يزداد ضعفه ويأخذ قراره بان يتخلص من كل هذا ، يقنع نفسه بانه لا ينتحر ويعصي ربه ، ولكنه فقط يحب ان يكون الي جواره ،
يحضر عقار من العقاقير التي يدرسها في الكليه ويعرف كيف يستخدم احدها لتمنحه موته مريحه تنتقل به الي عالم آخر ، يظن انه سيكون باي حال من الاحوال انقي واجمل من هذا العالم الكئيب ...
يخرج من الغرفه وهو مغيب عن كل شي ليحضر زجاجه المياه لتساعده علي شرب الاقراص التي يتنظر ان تمنحه الراحه من الحياه ، وتنتقل به الي حياة اخرى ، ولا احد في البيت يسأله ماذا تفعل ، فالساعه الآن الرابعه صباحا ولا يتبقى علي الفجر الا دقائق قليله ...
ياخذ الزجاجه ويدخل غرفته، يسمي الله ونطق بالشهادتين ... يهم ليضع الاقراص في فمه ...
يتردد قليلا ، ثم يحاول الشيطان ان يزيل تردده ، يفكر للحظات في ان تكون خاتمته صالحه قبل ان يموت ، هل يصلي ، هل يقرأ القرآن ، هل يقبل والديه ؟
وجد المصحف امامه في المكتبه ، قرر ان يقرأ بعض الايات قبل ان ينتقل الي ربه ، رفعه من المكتبه وازال التراب من عليه فهو لم يقرأ فيه منذ شهور طويله ، تمني ان يتقبل ربه ما يفعل الان ، وبانه فقط قرر الانتحار لانه سئم من العباد ويرجو لقاء خالق العباد ... !
فتح المصحف علي سورة الكهف ، فهو يحب هذه السوره من ان حفظها وهو صغير مع اخوته في المسجد ، بدأ القراءه وهو متأثر بكل قول ، يبكي بحرقه ويعتبر بكل قصه من قصص السوره الكريمه ، الغريب انه كلما يقرأ قصه ، يصبح اكثر اقتناعا بانه لا مفر من كل هذه الهموم ، الا الرحيل الي الله ، وانه سيتخلص من كل شيء مقابل الجنه التي تنتظره بعد الموت ، يواصل القراءه وقد غرق في عرقه ودموعه وتأثره الشديد بكلام الله ، قرأ الايات بتمعن احيانا وبتاثر احيانا وسهى عن الكثير احيانا اخرى ، الي ان جاء قوله :
{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. الكهف. 110
وقتها تبدل كل شيء ، وانكشفت الاعيب الشيطان ، كررها مره واثنان وعشره ، سقطت دموعه وسقطت معاها الغشاوه التي كانت علي عينيه ، خرج الشيطان يجر اذيال الخزي والهزيمه ، وانتفض هو من غفلته وضعفه ،
ولايزال يكرر الآيه مره واثنان ، فلقد وجد من يمد اليه يده أخيرا ، انها رحمة الله التي كان يقنط منها ، انها حكمة الله التي بينت كل شيء، انها كلمات الله التي بينت له سوء ما كان هامم بفعه ، انها النور الذي ازال الظلام من علي عينيه وبدل ضعفه قوه ، وحول يأسه الي أمل جميل ،
انها حياه جديده تنتظره وان سئم منها فالحل هوا ان يعمل عمل صالح يفربه الي الله وينتقل به الي جواره ... حل رباني لكل شيء ، كرم الهي ما بعده كرم ، وعفو ما بعده عفو ...
تمت
بقلم / محمد نبيل الدمرداش